عرض: هدير أبو زيد - معيدة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية
لعب الاستثمار العسكري الروسي في منطقة البحر الأسود منذ عام 2014 دورًا هامًّا في التغيير الجذري في الخريطة الأمنية للمنطقة، وهو ما تجلّى في استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم، واستيلاء البحرية الروسية على ثلاث سفن أوكرانية في مضيق كيرتش، فضلًا عن تحديث أسطول البحر الأسود الروسي ليشمل فرقًا وغواصات جديدة قادرة على إطلاق أحدث الصواريخ.
فعلى الرغم من قيام كل من حلف الناتو والولايات المتحدة باتخاذ بعض الخطوات لتأكيد وجودهما في البحر الأسود، فما زال لديهما -بجانب الحلفاء الإقليميين- مجموعة محدودة من الخيارات العسكرية التي تمكنهم من توسيع تدابير الدفاع والردع الحالية. وعليه، سيتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها العمل على معالجة اختلال التوازن العسكري الإقليمي مع روسيا، وزيادة المشاركة مع حلفاء وشركاء البحر الأسود عبر مجموعة من القضايا، بما في ذلك أمن الطاقة، واستقلال وسائل الإعلام، والفرص التجارية، وغيرها.
في هذا السياق، سعت "أنيكا بنينديك"، في دارستها المعنونة: "فهم ديناميكيات قوة البحر الأسود الروسية من خلال ألعاب الأمن القومي"، إلى طرح مجموعة من التفسيرات والبدائل المحتملة حال حدوث أزمة عسكرية بمنطقة البحر الأسود، وذلك بالاعتماد على نموذج محاكاة أجرته مؤسسة (RAND) بعنوان "أمن البحر الأسود".
وبناءً عليه، سعى هذا الكتاب للإجابة عن جملة من التساؤلات أهمها: ما هي مصادر القوة العسكرية وغير العسكرية التي قد تمتلكها روسيا في البحر الأسود؟ وما هي الاعتبارات التي ستدرسها الحكومات الإقليمية أثناء الأزمة العسكرية في المنطقة؟ وأخيرًا، كيف يمكن لروسيا أن تطبق أدواتها العسكرية وغير العسكرية للتأثير على عملية صنع القرار في الحكومات الإقليمية وتقييدها فيما يتعلق بخيارات الدفاع والردع؟.
التوازن العسكري الجديد في البحر الأسود
ركّزت الكاتبة على ملامح زيادة الوجود العسكري الروسي في البحر الأسود، والردود العسكرية الغربية على هذا الوجود حتى وقتنا الحالي. وعليه، أشارت الكاتبة إلى مؤشرات النفوذ الروسي بالمنطقة جويًّا وبحريًّا وبريًّا.
في هذا السياق، أعلن رئيس الأركان الروسي "فاليري جيراسيموف"، في سبتمبر 2016، أن "كل شيء مختلف" بالنسبة للتوازن العسكري للبحر الأسود، مدعيًا أن الأسطول الروسي في البحر الأسود يمكنه الآن "تدمير القوة البرمائية لأي عدو محتمل في الطريق". وبعد عدة أسابيع، أشارت بعض المصادر الإخبارية المملوكة للحكومة الروسية إلى أن خليج "سيفاستوبول" سوف يخلق فرصًا فريدة لموسكو، جنبًا إلى جنب مع القاعدة الجديدة في نوفوروسيسك. وعليه، يمكن لموسكو السيطرة الكاملة على مضيق البوسفور، والبنية التحتية العسكرية في بلغاريا، وأخيرًا تحييد التهديد الذي تشكله قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في رومانيا.
وفي مارس 2014، أشار الكرملين إلى رغبته في الاستفادة الكاملة من الإمكانات الجيوستراتيجية لشبه جزيرة القرم، وهو ما تجلى في أوامر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بنشر طائرات قاذفة نووية مؤقتًا في شبه الجزيرة، وزيادة عدد أفراد الجيش الروسي فيها ليصل إلى 28000 جندي، فضلًا عن قيامه بإلغاء الاتفاقيات التي تحظر إقامة سفن روسية جديدة في القرم، وهو ما مهد الطريق لاستخدام شبه جزيرة القرم كقاعدة لإبراز القوة البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط، وتحسين درجة سيطرتها الجغرافية على البحر الأسود.
ليس هذا فحسب، فقد قامت روسيا بتطوير محطات رادار واسعة النطاق على قمم تلال شبه جزيرة القرم، لزيادة قدرتها على مراقبة سفن حلف الناتو عبر البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، في حالة حدوث أي مواجهة عسكرية. كما أعلنت عن إنشاء أسلحة مشتركة جديدة "الجيش (الثامن)" داخل المنطقة العسكرية الجنوبية بالبحر الأسود.
على الجانب الآخر، نجد أن المواقف الغربية بجانب الأمريكية كانت ضعيفة وباهتة تجاه التدخلات الروسية بجورجيا، والقرم، وأوكرانيا، ونفوذها العسكري المتزايد بمنطقة البحر الأسود، وهو ما دفع رومانيا للمطالبة بإنشاء قافلة بحرية دائمة للناتو بالبحر الأسود، تضم سفنًا من القوات البحرية الساحلية لدول الحلف بجانب الولايات المتحدة، لكنها ظلت مجرد مطالب بسبب مخاوف دول البحر الأسود من تحذيرات موسكو من تلك المبادرة.
لكن بداية من عام 2018، اتخذت الولايات المتحدة بعض الخطوات لتعزيز وجودها في تلك المنطقة، حيث تضمنت ميزانية الدفاع الأمريكية لعام 2019 حوالي 27 مليون دولار لتحديث البنية التحتية في رومانيا وبلغاريا. وفي نوفمبر 2018 -ردًّا على حادثة مضيق كيرتش- قامت واشنطن بزيادة مهام المراقبة العسكرية برومانيا، وذلك بنشر حاملة الطائرات "يو إس إس فورت ماكهنري" للمشاركة في المناورات البحرية المشتركة مع البحرية الرومانية في المياه الإقليمية والدولية للبحر الأسود. وأخيرًا، أجرت مدمرة تابعة للبحرية الأمريكية عمليات عسكرية في المياه المتنازع عليها في بحر اليابان بالقرب من روسيا.
علاقات معقدة
حاولت الكاتبة استعراض العلاقات الروسية بأهم الدول الساحلية المطلة على البحر الأسود، وهي: تركيا، ورومانيا، وبلغاريا، وأوكرانيا، وأخيرًا جورجيا.
ففي إطار سعيها لتأكيد الهيمنة الإقليمية، اتبعت روسيا مجموعة واسعة من الإجراءات غير العسكرية، وذلك بخلق روابط سياسية واقتصادية قوية عبر منطقة البحر الأسود يمكن تطبيقها كأدوات إقناع أو إكراه للتأثير على صنع القرار في تلك الحكومات الساحلية.
فبالرغم من القدرات البحرية الهائلة لتركيا بالبحر الأسود، فضلًا عن مسئوليتها عن السيطرة على المرور البحري عبر المضيق التركي من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود بموجب اتفاقية مونترو؛ إلا أن المصالح الأمنية التركية في سوريا، وضرورة استمرار التعاون مع روسيا لمعالجتها، وكذلك اعتماد أنقرة على واردات الغاز الطبيعي الروسي مع استكمال خط أنابيب ترك ستريم؛ قد تجعل تركيا مترددة في مواجهة النفوذ الروسي بالبحر الأسود.
أما بلغاريا فلا تزال عرضة للضغط الروسي، نتيجة للاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة البلغاري وغيرها من القطاعات الحيوية، وهو ما سيجعل بلغاريا تتردد في دعم أي مبادرات جماعية من شأنها تهديد النفوذ الروسي بالمنطقة. وذلك على عكس رومانيا، التي من المرجح أن تمتلك الإرادة والقدرة على المساهمة في أي مبادرة عسكرية إقليمية في البحر الأسود، نتيجة لقيامها بجملة من المشتريات العسكرية وزيادة مساهماتها البحرية، ناهيك عن رغبتها في تعزيز وجود الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود بسبب الضغوط الروسية.
ونتيجة لانهيار قدراتهما العسكرية إبان صراعهما مع روسيا، من المرجح أن ترحب كل من أوكرانيا وجورجيا بأي مبادرة إقليمية من شأنها مواجهة النفوذ الروسي المتزايد، كما سيرحبان بالوجود الأمريكي والغربي بالمنطقة، لا سيّما مع تآكل بعض المصادر التقليدية للنفوذ الروسي غير العسكري في كلا البلدين في السنوات الأخيرة.
تكتيكات روسية
حاولت الكاتبة التنبؤ بالتكتيكات الروسية تجاه دول البحر الأسود في حالة حدوث سيناريو الأزمة العسكرية، انطلاقًا من المصالح الروسية هناك والتي تشمل ما يلي، أولًا: مواجهة التحديات التي تواجه السيادة الوطنية الروسية، بما في ذلك في شبه جزيرة القرم. ثانيًا: تعزيز النفوذ في منطقة البحر الأسود، وإعادة الدول الأوروبية الآسيوية إلى المجال الروسي. ثالثًا: الحفاظ على حرية الملاحة في البحر الأسود، والحفاظ على صادرات الطاقة. رابعًا: الحفاظ على حاجز استراتيجي للحد من توسع نفوذ الولايات المتحدة والناتو في المنطقة. وبناءً عليه، من المرجح أن تستخدم موسكو مجموعة متنوعة من التكتيكات والتدابير الوقائية، في محاولة لتقويض التماسك الإقليمي للدول الساحلية في البحر الأسود قبل التصعيد إلى التدابير العسكرية.
فبالنسبة لتركيا، من المرجّح أن تقوم روسيا بمناورات عسكرية إضافية مشتركة في البحر الأسود، أو عقد قمة رئاسية ثنائية مع تركيا، أو تقديم معلومات استخبارية عن حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.
أما بلغاريا، فمن المرجّح أن تقوم روسيا بالتواصل مع أتاكا للمطالبة بخفض تصعيد الناتو، أو تقديم عروض لتصدير الغاز الطبيعي بأسعار منخفضة، أو الانخراط في التدخل بالانتخابات وحرب المعلومات. أو مضايقة السفن التجارية بالنسبة للتعامل مع رومانيا. أخيرًا، بالنسبة لأوكرانيا وجورجيا، من المرجح أن تقوم روسيا بحصار السفن الأوكرانية في بحر آزوف، والانخرط في تدريبات عسكرية موسعة في الأراضي الجورجية المحتلة.
في الختام، حذرت الكاتبة من التحديات التي يفرضها النفوذ العسكري الروسي المعزز مؤخرًا في البحر الأسود، فضلًا عن التطبيقات المحتملة لأذرع القوة الروسية غير العسكرية خلال أي أزمة مستقبلية، لا سيما وأن روسيا قادرة ومستعدة بشكل متزايد على فرض تكاليف عسكرية كبيرة على حلفاء حلف شمال الأطلسي وشركائه في جميع أنحاء المنطقة، وهو ما تجلّى في التحديثات الأخيرة لأسطول البحر الأسود الروسي، والتي ركّزت على قدرات الصواريخ البحرية الجديدة، مما ساعد على زيادة المخاطر على البنية التحتية لحلف الناتو ومعداته، والسكان في منطقة البحر الأسود.
لذا، يجب على الدول الساحلية المطلة على البحر الأسود، بجانب كل من حلف الناتو والولايات المتحدة، اتخاذ خطوات سريعة لإبطال المزايا العسكرية التي اكتسبتها روسيا مؤخرًا، والمساعدة في تقليل اختلال التوازن العسكري. كما يجب على واشنطن وغيرها من الحلفاء من خارج البحر الأسود النظر في توسيع الزيادة الحالية في الوجود البحري المتناوب في البحر الأسود. وبما أن اتفاقية مونترو تفرض قيودًا على توقيت وحجم الوجود البحري الخارجي، يجب على الحلفاء والشركاء التنسيق بشكل استباقي لضمان وجود دوري متعدد الجنسيات يتماشى مع شروط مونترو.
إضافة إلى ما سبق، يمكن أن يكون أحد نماذج المساعدة البحرية هو مبادرة الأمن البحري لجنوب شرق آسيا، والتي خصصت لها وزارة الدفاع الأمريكية ميزانية قدرها 98 مليون دولار في السنة المالية 2019، من أجل توفير المعدات، والإمدادات، وخدمات الدفاع، والتدريب، والبناء على نطاق صغير لدعم قوات الأمن البحرية من خمس دول حليفة وشريكة في بحر الصين الجنوبي.
أخيرًا، يجب على الولايات المتحدة أيضًا الاعتراف بدور تركيا كحجر زاوية في أمن البحر الأسود، والسعي قدر الإمكان إلى تجزئة تعاونها الأمني البحري مع أنقرة وعدم تسييسه. وعليه، يمكن أن تتمثل إحدى الآليات الملموسة التي يمكن من خلالها متابعة هذا الحوار في إنشاء مركز الامتياز التابع لحلف الناتو في تركيا، فضلًا عن توفير موارد الموظفين والدفع الدبلوماسي المطلوب ليكون بمثابة مركز فكري إقليمي حول المخاوف الأمنية في البحر الأسود.
المصدر:
Binnendijk, Anika, “Understanding Russian Black Sea Power Dynamics Through National Security Gaming”, Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2020.